فيصل يوسف: "سوريا الجديدة" الوحدة الحقيقية لا تُبنى على الإنكار بل على الشراكة

فيصل يوسف:

في خضم السجال الدائر حول مستقبل سوريا، تطفو على السطح مقولات تبدو للبعض بديهية ونهائية، مثل “رفض المحاصصة” و”رفض اللامركزية سواء فيدرالية او ادارة ذاتية و”الشعب السوري واحد”، وتُستخدم أحياناً كأدوات لإسكات أي نقاش جاد حول نموذج الدولة بعد عقود من حكم البعث والأسد ومجريات سنوات الثورة السورية . لكن السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا: ألم يكن إنكار التعددية والتنوع، تحت شعار الوحدة الشكلية، هو ما أوصلنا إلى هذا المأزق التاريخي الكارثي ؟ أم أن الاعتراف السياسي الواعي بهذا التنوع هو الطريق الوحيد لبناء وحدة وطنية حقيقية وقابلة للحياة؟

الوحدة الوطنية لا يمكن أن تقوم على محو الفوارق أو تذويب الهويات في قالب واحد، بل على الاعتراف بها وتنظيم العلاقة بينها. عبارة “الشعب السوري واحد” التي يرفعها البعض بنية حسنة تحولت في الواقع إلى سلاح بيد من يرفضون أي إصلاح جوهري في بنية الدولة. الحقيقة أن الشعب السوري ليس كتلة متجانسة؛ بل فسيفساء غنية من القوميات والأديان والمذاهب والثقافات، والوحدة الحقيقية هي التي تجمع هذه الفسيفساء في لوحة متينة متناسقة، لا أن تصهرها في لون واحد باهت. النموذج المركزي الأحادي الذي حكم سوريا لعقود فشل في تحقيق المساواة والعدالة، وأنتج أزمات متراكمة أدت إلى انفجار الصراع. وان الإصرار على إعادة إنتاجه اليوم ليس إلا وصفة لتأجيل الانفجار القادم. ومن يرفع شعارات الوحدة دون مراجعة نقدية للتجربة الماضية إنما يكرر الخطأ ذاته على أمل أن يقود إلى نتيجة مختلفة.

وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند الجدل حول مفهوم “المحاصصة”. يرفض كثيرون هذا المفهوم لأنه ارتبط بتجارب فاشلة في دول أخرى مثل لبنان والعراق، وعلى الرغم من التحفظ حول مايقال على العراق ولاسيما حول احقية الشعب الكردي في التمتع بحقوقه كشعب اصيل من حقه أن يقرر مايريد ي اطار الدولة العراقية كشريك فعلي ، لكن من الخطأ وضع كل آليات تقاسم السلطة في سلة واحدة. هناك فارق جوهري بين “المحاصصة” التي تؤبد الانقسامات، و”الشراكة” التي تهدف إلى تصحيح الخلل التاريخي وضمان التمثيل العادل للمكونات على طريق بناء دولة المواطنة. لا معنى لشعارات “التشاركية” إن لم تتحول إلى آليات عملية تضمن أن جميع السوريين، بمختلف مكوناتهم، يشاركون فعلاً في صنع القرار، لا أن يبقى الحكم حكراً على من يملكون القوة العسكرية أو العددية ولهم فقط الوصاية على الدولة ومحوناتها . الشراكة هنا ليست منّة من مكون على آخر، بل حق أصيل وشرط لاستقرار الدولة.

أما الفيدرالية أو الحكم الذاتي، فهي تُرفض غالباً تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية، لكن أي وحدة تقوم على الإكراه هي وحدة هشة ومؤقتة. التهديد الحقيقي للوحدة ليس الاعتراف بحقوق المكونات، بل استمرار إنكارها. المكون الكردي، على سبيل المثال، جزء أصيل من سوريا وقدم تضحيات كبيرة في سبيلها، ومن حقه أن يطالب بنموذج يضمن إدارة شؤونه القومية والثقافية والمحلية ويمنع تكرار سياسات الإقصاء والتعريب والحرمان التي عانى منها. الحكم الذاتي أو اللامركزية المتقدمة ليسا دعوة للانفصال بل محاولة لبناء وحدة طوعية قائمة على القبول والرضا. ومن المفارقة أن من يرفض هذه النماذج باسم الخوف من “التقسيم” يتجاهل أن الانقسام الفعلي على الأرض اليوم ناجم عن غياب عقد اجتماعي يرضي الجميع حتى الآن ومن المهم البدء بحوار وطني واسع حول الإعلان الدستوري المؤقت ومدى استجابته لمتطلبات الشعب السوري بغية تعديله ووضع المقدمات الصحيحة التوافقية لدستور سوريا المستقبل، وأن أي دولة مركزية قسرية ستواجه بمعارضة دائمة تعطل الاستقرار واعادة الاعمار والتعافي .

الإصرار على شرط “الإجماع الشعبي” لأي صيغة حل يبدو مثالياً في بلد منقسم وممزق بفعل الحرب والنزوح والشتات. الإجماع المطلق مستحيل، وما نحتاجه هو موافقة المكونات الرئيسية على العقد الاجتماعي الجديد. لا يمكن المضي بدستور أو نظام حكم يرفضه العرب أو الكرد أو السريان أو أي مكون أساسي آخر. تجاهل إرادة أي طرف سيعيد إنتاج الأزمة ويفتح الباب لصراعات جديدة. الشرعية الحقيقية لأي حل سياسي لن تأتي من صناديق الاقتراع وحدها، بل من شعور جميع المكونات بأنها ممثلة ومصانة الحقوق في هذا الحل.

ثم إن المساواة الشكلية التي ينص عليها الدستور لا تكفي وحدها. المساواة الحقيقية تعني اتخاذ تدابير تصحيحية تعالج إرث عقود من التهميش والظلم خلفها حزب البعث . لا يمكن مساواة من حرم من جنسيته ومنع من تعلم لغته القومية بمن كان شريكاً في السلطة والقرار لعقود طويلة. العدالة الانتقالية وآليات الضمان الدستوري هي شروط أساسية لإعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها. أي مساواة تتجاهل هذا الإرث ليست سوى استمرار لعدم المساواة بوسائل جديدة.

إن سوريا الجديدة وُلدت من رحم معاناة غير مسبوقة، والحديث عنها يجب أن يكون صريحاً وشجاعاً، لا مجرد إعادة تدوير لشعارات الماضي. رفض أي نموذج يعترف بالتعدد، تحت لافتات “الوحدة” أو “المصلحة الوطنية”، يعني إعادة إنتاج الأسباب العميقة للأزمة السورية. الثورة الحقيقية هي ثورة على مركزية الدولة الإقصائية، على عقلية القسر والإنكار، وعلى منطق القوة العددية والتسلطية الامنية الذي استُخدم لتهميش مكونات بأكملها. مستقبل سوريا لن يُبنى على كتلة صلبة متجانسة بالقوة، بل على عقد طوعي بين مكونات تعترف ببعضها البعض وتتقاسم السلطة والثروة بعدل، بحيث لا يكون الانتماء القومي أو الديني عائقاً أمام المواطنة، ولا تكون المطالبة بالحقوق تهمة بالخيانة. هذه ليست عاطفة ولا رومانسية سياسية، بل واقعية صارمة تدرك أن الاستقرار الدائم لا يتحقق إلا عندما يشعر كل طرف أن هذا الوطن وطنه بحق، وأن الدولة التي يعيش فيها تحميه بقدر ما تحمي غيره. عندها فقط يمكن أن نتحدث عن وحدة وطنية حقيقية قابلة للحياة، وحدة تبنى على الرضا لا على الإكراه، وعلى الشراكة لا على الإقصاء. وان كان ثمة مكسب كبير للثورة التي أنهت النظام البائد فهو اتاحة افساح المجال لأول مرة منذ عقود من الزمن أمام أجيال عديدة عاشت في نير وثقافة الكراهية والتشتت والتمزق الوطني كي تبني دولتها التي تعبر عن الكل السوري بتنوعه العرقي والديني والثقافي واختيار شكل وهوية الدولة الجامعة القابلة للازدهار والتقدم